تكست: السنة الثانية - العدد العشرون - تشرين الثاني 2013






السنة الثانية - العدد العشرون


السبت، 14 ديسمبر 2013

تكست - السنة الثانية - العدد العشرون - مايكل دوميــــــت .......د. عـــادل الثــــامــــري

مايكل دوميت



د . عادل الثامري
يعد مايكل دوميت أحد أبرز الفلاسفة البريطانيين المؤثرين من أبناء جيله و تستند شهرته الفلسفية إلى دراساته في تأريخ الفلسفة التحليلية و إلى مساهماته في الدراسة الفلسفية للمنطق و اللغة و الماورائيات .  وسنتناول    عمله التاريخي ثم نتطرق لمشروعه و تأثيره في الحقل الفلسفي. تعد شروحاته على فريجة ذات أهمية كبرى في عمله التاريخي. و قد كرس دوميت كتابه لفلسفة الرياضيات عند فريجة. و من الجوانب المثيرة للجدل رأيه في أن الفلسفة التحليلية تستند إلى تبصر فريجة في أن الطريقة الصحيحة لدراسة الأفكار هي دراسة اللغة. و يؤمن دوميت أن فريجة مؤيد للنظرية الدلالية الواقعية التي ترى أن كل جملة و من ثم كل فكرة قادرة على التعبير عنها، هي و بشكل حاسم صادقة أو كاذبة بالرغم من أننا قد لا نملك أية وسيلة لاكتشاف  ذلك.
طور دوميت  اللا-واقعية استنادا إلى فكرة  أن فهم جملة ما هو القدرة على إدراك ما يحسب انه لها أو عليها.واستنادا إلى اللا-واقعية  ليس ثمة من ضمان في أن كل جملة هي صادقة أو كاذبة بشكل حاسم ، و هذا يعني أن كل من الواقعيين و اللا-واقعيين يدعمون منظومات منطقية متنافسة. يرى دوميت إن علينا التفكير بوساطة سلسلة من المناظرات المستقلة بين الواقعيين و اللا-واقعيين و كل من هذه المناظرات تهتم بنوع مختلف من اللغة ، لذا يمكن أن احدهم لا-واقعي بخصوص الرياضيات و واقعي  فيما يخص الزمن. و يمكن القول أن مشروع مايكل دوميت الفلسفي هو إقامة الدليل على أن فلسفة اللغة قادرة على توفير حل نهائي لمثل هذه السجالات الفلسفية الماورائية و يتضمن عمله حول الواقعية و اللا-واقعية مجالات فلسفة المنطق و فلسفة الرياضيات و فلسفة اللغة و الماورائيات.
إن الربط بين اهتمامات دوميت بتاريخ الفلسفة التحليلية و مساهماته فيها يساعد في فهم عمله بوصفه استجابة مع المفكرين الآخرين و الذين و ضعوا البرنامج الذي يتبعه الفلاسفة التحليلين.
لقد قال دوميت  (1993 أ)  "أعد نفسي،  مخطئ بلا شك، فتغنشتايني".من أهم الأفكار التي أفاد منها دوميت من أعمال فتغنشتاين المتأخرة و هي التي استمر في الإقرار بها : أن المعنى هو الاستعمال.  إن فهم معنى كلمة ما هو فهم تلك الكلمة و فهمها هو القدرة على استعمالها بشكل صحيح.. و لقد كرس دوميت قدرا كبيرا من جهده  لمهمة معرفة ما تنطوي عليه القدرة على استعمال كلمة ما بشكل صحيح. و قد أكد دوميت على أن مهمة الفلسفة ليس زيادة مقدار المعرفة الإنسانية بل تحريرنا من قبضة المدركات الفلسفية المربكة عبر جذب انتباهنا إلى حقائق معينة عن المعنى. على الفلسفة أن تحدد نفسها بتوصيف ما نفعله في مجالات أخرى من الحياة و أن لا تحاول مطلقا تغيير أو تعديل ممارساتنا. و قال دوميت"لم استطع مطلقا أن أتعاطف مع تلك الفكرة (نفس المصدر) و لا يمكن لفيلسوف كاثوليكي أن يقتنع بالقول أن الماورائيات مستحيلة. و مع ذلك يبدو أن ثمة رابط بين فكرة فتغنشتاين في أن المعنى هو الاستعمال و رفضه للماورائيات.
لقد تقبل دوميت أطروحة المعنى و الاستعمال و لم يقبل فكرة أن المشاكل الماورائية  لابد وان تهجر لا أن تحل، الأمر الذي طرحه فتغنشتاين و بشدة. و شكل هذا الأمر تحديا لدوميت لتفسير ما تحتويه العبارات الماورائية من خلال الإشارة إلى الرابط الدقيق بين  العقيدة الماورائية و الممارسات الأخرى التي نتعاطى بها  و قد واجه هذا التحدي  بالتركيز على  تعارض في فلسفة الرياضيات و هو التضارب بين الحدسيين و الافلاطونيين.
حاول دوميت في كتابه الموسوم Frege: Philosophy of Mathematics أن   يحدد وبدقة متناهية مكمن الخطأ لدى فريجة ولكنه كان الأهم من بين الشارحين لفريجة حتى و إن كانت تأويلاته لم يتم تقبلها بشكل واسع و لكنها تاويلات لا يمكن لأحد أن يتجاهلها. يرى دوميت أن المشروع غير الناجح لفريجة قدم  ناتجين جانبيين مهمين. فقد كان على فريجة و هو يحاول إثبات منطقه أن يبتكر لغة يمكن فيها تعريف الأعداد بمفردات منطقية بسيطة و عبرها يمكن إما إثبات أو دحض تعبيرات الحساب. و قد حقق فريجة هذا الامر عام 1879  و كان التجديد الفني الاكبر هو استعمال العمومات للتعامل مع العبارات ذات العمومية المتعددة. لقد ابتكر فريجة لغة شكلية يكون من الممكن فيها  عرض الاختلاف بين " كل امرئ يحب امرئ ما"  و "ثمة امرئ يحبه كل امرئ" و كذلك البرهان و بشكل واضح على أن النتائج المختلفة يمكن  استنتاجها من  كل من هذه العبارات.و جميع اللغات الشكلية تستند إلى طريقة فريجة في التعبير عن عبارات مثل هذه. و من هنا جاء تتويج فريجة على انه مؤسس المنطق الشكلي الحديث.
لقد تبنى دوميت "مصطلح " فلسفة اللغة" من أراء فريجة في طبيعة الفكر و المعنى و الصدق، و يرى دوميت أن هذا هو الناتج الجانبي الثاني من مشروع فريجة غير الناجح. لقد رفض دوميت اسم  "منطق " لأنه يفضل استعمال تلك الكلمة بالمعنى الارسطوي الضيق في دراسة مبادئ الاستدلال . لقد تبنى دوميت مصطلح "فلسفة اللغة " بدلا من "فلسفة الفكر " أو إي مصطلح أخر لأنه يعتقد أن عمل فريجة جعل من الطبيعي للفلاسفة أن يسيروا في "الانعطافة اللغوية" و ليصبحوا فلاسفة تحليليين بالرغم من أن دوميت يعترف أن فريجة نفسه لم يقم بتلك الانعطافة على نحو واضح و أن بعض عبارات فريجة تبدو ضدية لها. و يرى دوميت أن الانعطافة تحصل عندما يدرك احدهم:
أولا :ان تفسيرا فلسفيا للفكر يمكن بلوغه عبر تفسير فلسفي للغة ،و ثانيا ، أن تفسيرا شاملا يمكن إحرازه بنفس الطريقة (1993)
 و يشير دوميت إلى استعمال فريجة  مبدأ السياق في كتابه  Die Grundlagen der Arithmetik (1884) ، حين واجه ما تعنيه كلمات الأعداد توسلا بمبدأ السياق و الذي يصفه دوميت   بأنه: أطروحة في  سياق  جملة فقط  تمتلك الكلمة معنى:لذا تأخذ الدراسة شكل السؤال كيف يمكن تحديد معاني الجمل التي تحتوي كلمات أعداد(1993) .
و من الجدير بالملاحظة أن دوميت هنا يستعمل الكلمة " sentence"(جملة ) ترجمة لكلمةSatz"" الموجودة في النص الأصلي لفريجة ، و قد ترجم جي ال اوستن الكلمة الى ""proposition( قضية) و ترجمته توائم تفسيره لمبدأ السياق بوصفه مبدأ لغويا.
فضلا عن ذلك ، و بالرغم من أن مبدأ السياق قد جعل من الانعطافة إلى فلسفة اللغة أمرا محتما بيد انه كما يرى دوميت ليس إسهاما بفلسفة اللغة ، يقول دوميت عن كتاب  Grundlagen   :
الواقعية هي عقيدة ماورائية ؛ بيد أنها تصمد أو تسقط  مع قابلية نظرية دلالية مقابلة على التطبيق.ليس ثمة نظرية دلالية عامة في أو يستند إليها كتاب  Grundlagen: إن مبدأ السياق يرفض علم الدلالة.ذلك المبدأ كما فهم في Grundlagen يجب إذا أن لا يتوسل به كواقعية اساسية، بل رفض المسألة بوصفها زائفة.
يمكن القول أن أهم إسهامات دوميت في الفلسفة هي ملاحقته و محاولته حل بعض الإشكاليات التي طرحها فريجة وملاحقته لها . و من هذه الإشكاليات مقولة فريجة بأن المعاني هي ليست جزء من الأشياء الزمكانية ، و لا توجد في داخل أذهان الأفراد بل هي تنتمي إلى "حقل ثالث" ، عالم لا زمني  نصل إليه جميعا. و لم يؤيد دوميت هذه المقولة بأن المعنى يحتل حقلا ثالثا فيما وراء الزمان و المكان. و قد أطلق على مثل هذا الاعتقاد مصطلح " الأسطورة الانطولوجية" و قد استعمل مفردة الأسطورة بالمعنى الأزدرائي للكلمة. يعتقد دوميت إن هذين نهايتين سائبتين و ينبغي ربطهما. و لم يكن مقتنعا بوصف فعل الفهم على انه ينطوي على رابط  خفي أو ملغز بين أذهاننا و كينونات لا زمانية تعرف بالمعاني، و قال بأن علينا التركيز على ممارسة استعمال الجمل في اللغة. و هذا يتطلب بدوره أن نفكر بالغرض من تصنيف الجمل  صادقة أو كاذبة ، وهذا يتطلب أن نفكر في الغرض الذي نستعمل اللغة لأجله. ونتيجة هذه العملية قد يكون إثبات أن هناك علم دلالية لدى فريجة و قد يثبت موقع الحدسيين في الجدل الفلسفي.
بالنسبة إلى دوميت إن كنا نريد طريقة لحل الإشكالات الماورائية ،لابد من الكشف عن طريقة لتبرير ألمنطق ، أي إيجاد مجموعة مبادئ للاستدلال. فالمنطق هو دراسة الصدقية - فالاستدلال صادق إذا و فقط إذا كان صدق المقدمات يضمن صدق النتائج.يريد المنطقي أن  يكون قادرا على إدراك الاستدلالات الحافظة للصدق من خلال بنيتها.  و يمكن تحقيق دقة اكبر بتقديم الاستدلالات في منظومة شكلية. ويصبح للدقة أهمية حيوية حين نحاول الاختيار بين منظومتين منطقيتين متنافستين .(1991 ب،185) .فالمنطقي يريد أن يكون قادرا على إدراك أن جملا في مجموعة أخرى هي جمل صادقة من خلال بنية جمل من مجموعة ما. وواحدة من طرق إثبات قواعد الاستدلال هي بواسطة نظرية دلالية، حيث أن كل تعبير يعطى قيمة دلالية و يتم تبيان كيف أن القيمة الدلالية للعبارة المعقدة تستند إلى القيمة الدلالية لمكونات تلك العبارة. و يرى دوميت إن هدف النظرية الدلالية هو تفسير كيف إن أجزاء الجملة تحدد قيمة الصدق لتلك الجملة(المصدر السابق،24). و هنا لابد من للتركيز على استدلال معين و نظرية دلالية معينة.
تشتمل النظرية الدلالية على مبدأ ثنائية التكافؤ أي إن كل جملة تعطى القيمة صادقة أو القيمة كاذبة. لقد عد دوميت أن هذا الأمر هو خصيصة  لعلم الدلالة الواقعي فليس ثمة بديل عن مبدأ ثنائية التكافؤ .يمكن للمرء أن يتجنب ثنائية التكافؤ أن وجد أكثر من قيمتي صدق أو بالاعتراف أن هناك جمل بلا قيمة صدق أو بالاعتقاد أن ليس ثمة ضمان في أن كل الجمل لها إحدى القيم (صادقة أو كاذبة). و بالرغم من أن اشتغال دوميت على الاستدلال يجد جذوره في الجدل حول الحدسية بيد انه ليس بالضرورة أن يكون المنطق البديل الذي يؤيده دوميت من خلال أسلوبه الخاص اللا واقعي سيكون منطقا حدسيا. و ذلك لان المبادئ المنطقية الصحيحة ستتبين حالما تتأسس النظرية الدلالية الصحيحة.
إن نظرية المعنى هي تفسير للمهارة التي يملكها أي شخص يفهم لغة.و بوصفنا مستعملي لغة نواجه باستمرار جملا لم نواجهها سابقا ، و يبدو أن هناك مجموعة قواعد نعرفها ضمنيا تمكننا من استنباط معنى الجمل الجديدة.و في هذا الصدد يشترك دوميت مع أفكار دونالد ديفيدسن.  ومن بين الاقتراحات التي يدعمها ديفيدسن و بقوة هي أن نظرية المعنى ستحدد مجموعة القواعد التي نستقي بموجبها معرفة بالشروط التي تكون فيها الجملة صادقة و هذا يعني أن كنت اعرف أن جملة من لغة أجنبية هي جملة صادقة إذا كانت القطة على الحصيرة و كاذبة إن كانت القطة ليست على الحصيرة فانا اعرف أن الجملة تعني "القطة على ألحصيرة" . و يؤيد دوميت الرأي القائل أن هذا هو الاقتراح الأفضل المطروح لبناء نظرية معنى. ( 1991 ب) و رأى أن نظرية مثل هذه يجب أن تبنى على الأسس التي وضعها فريجة. و قد ميز دوميت بين معنى راسخ و أخر ضعيف حول إمكانية أن يكون "الصدق" فكرة مركزية في أية نظرية للمعنى. بالمعنى الراسخ ، ينبغي تفسير المعنى بموجب شروط الصدق و هنا يؤخذ مصطلح الصدق على عواهنه.

تكست - السنة الثانية - العدد العشرون - التداولية التواصلية و منطق الخطاب عند يورغن هابرماس ....أ. محمد البكاي



التداولية التواصلية و منطق الخطاب عند يورغن هابرماس
أ‌.       محمد البكاي**
تقديـم:


وظّف يورغن هابرماس مفاهيم التداولية حول اللغة البشرية في تأسيسه للعقلانية التواصلية لضبط الخطاب وابتغاء الحقائق وتنظيم الحياة الاجتماعية، وهو بذلك قام بتبنّي النموذج التداولي الذي قوامه البرهان اللغوي والتفاعل الخطابي لـمواجهة الـمستقبل الإنساني الحالك، بالانكباب على إرساء معاني التعاون أو دعوات التذاوت وتوطيد الاتفاق والتفاهم.



وهو بهذا الانتقال البراديغمي من فلسفة الوعي إلى فلسفة اللغة، يكون قد ساهم في تحرير الفلسفة من قيود الـميتافيزيقا والتَّوجهات الـماورائية التي ترزح تحت سلطتها. كما وظَّف أخلاقيات تداولية مختلفة عن الأخلاقيات الدينية والروحية الموروثة والمعهودة. وتجسّد هذا البديل الإتيقي في منطق الخطاب عن طريق المحاججة والإقناع وتقديم البراهين والبيّنات. فوحدها عقلانية تواصلية (Rationalité communicationnelle) كفيلة بتواصل بشري مثمر، و بديلة لـمنطق العقل الأداتي والنسقي الخانق.
وبهذا وضع هابرماس (من خلال التداولية الصورية والعقلانية التواصلية) نصب عينيه تحقيق التفاهم الـمتبادل والتفاعل الحواري الـمرجوّ بين الأفراد. وستفي هذه التداولية الصورية بشكل أكيد في إعادة ربط النسيج الاجتماعي الـمتشظي والـمتبعثر، وإعادة الذوق لحياة غدا البشر فيها نياما وما هم بنيام، من خلال بلورة تفاعل اجتماعي يُعيد الحرارة إلى شرايين المجتمع الـمعطوبة[1].



 وقد حدَّد هابرماس مجموعة من المعايير والقيم والأدوار الرئيسية للمجتمع. وأعطى أهمية للإجماع والاتفاق الاجتماعي الذي يقضي على كل تفكير أحادي ميتافيزيقي، فالحقيقة عند هابرماس لم تعد تـمتثل للمطلق أو المثالية، بل للإجماع والتفاهم والاتفاق بين المتخاطبين. وإقدامهم على البرهنة ووضوح المقاصد داخل المناقشة والحديث.



إضافة إلى هذا، فإنّ التخاطب في الحياة الاجتماعية – عند هابرماس- شكل من أشكال البراكسيس العملي بين المتواصلين واتفاق صادق وحرّ يهدف إلى عقلانية تواصلية تحقق غايات أخلاقية سليمة ضد كل أشكال التَّسلط والقهر والهيمنة، التي تتمادى في امتلاكها للحقيقة الواحدة، وفي هذا قمع ونفي للحوار والتسامح وقـمْـعٌ للتواصل والتفاعل. بهذا يجعل هابرماس الحقيقة متصلة اتصالاً وثيقا بتداولية الخطاب والكلام.



وقد سعى هابرماس إلى إعادة تأسيس عقل جديد وفق أسس جديدة، عقل منفتح ومرن، بغية إعادة تنظيم العلاقة بين المعرفة المجردة (Abstrait) الباحثة عن انسجام العقل مع مقولاته الذاتية، وبين الواقع الاجتماعي التاريخي المنتجة فيه[2]. ويلحّ هابرماس على قضية التفاهم ودوره في وصل الأفراد في نسيج اجتماعي متفاعل وغير خاضع لأي نوع من الضغط أو الإرغامات.


هابرماس: فلسفة التواصل والبديل التداولـي:


أنتجت الفلسفات الـمثالية والأداتية تواصلاً بشريا مشوّها وحوارا عقيما. فالتيار الـهيغلي الـمثالي قد طرح شكلا ثنائيا من التواصل الذي يقيم شرخا بين الذات والواقع باعتباره يعيد عالم الأشياء إلى الذات ولا يَـمنح الآخر أيّة قيمة أو دور في التفاهم والتحاور. هذا التواصل الذي قدَّمه هيغل يعيد القمع ويُكرّس العنف، إنه تواصل مشوَّه من خلال العنف عمليا ديالكيتكيا، ليس التفاعل اللاقسري بين الذوات وإنما تاريخ قمعه[3].


فالأداتية الغربية أضعفت أواصر التواصل والتفاعل بين البشر، وأغرقت الإنسان المعاصر أكثر فأكثر في الوحدانية والفردانية.  فـ"انفلت العالم إلى أشكال ممزَّقة من المعاني التي تتكلم أصواتا متعددة تتفق مع تبايناتها التي أفقدتها الكثير من تناغمها وعمقها، مما أدى إلى فقدان قابليتها لتنظيم حياة الناس وإعطائها معنى"[4].



من هنا استرجع هابرماس أهمية البعد اللغوي في الفلسفة الذي ظلّ زمنا غير مفكرا فيه أو حكرا على الصرامة اللسانية والبحوث الفيلولوجية. فاسترداد هذا البعد اللاَّمفكر فيه، هو إعادة الاعتبار للتواصل الإيجابي الـمكلل بنتائج ومصالح تشمل كل الـمتخاطبين والـمتواصلين. وبهذا ستكون اللغة عند هابرماس وسيطًا بين المتواصلين اجتماعيا مُحدثة تفاعلاً بينهم عن طريق التبادل والتداول، أي تنشئ بينهم علاقة البينذاتية التي تؤول إلى التفاهم والتحاور؛ إذ "اللّغة تؤدي إلى ما يدعوه هابرماس بالمصلحة العملية من التفاعل البشري، أي عن طريق تأويل أفعالنا تجاه بعضنا البعض، وفهمنا لها، والسبل التي تتفاعل لها في إطار التنظيمات الاجتماعية، وهذه المصلحة تنمو وسط تفاعل يهدف إلى الكشف عن عمليات التشويه والاضطراب والبلبلة التي تؤدي إلى سوء الفهم"[5].
و اهتمّ هابرماس من خلال نظرية العقلانية التواصلية بتقصِّي البعد التواصلي للكلام والتفاعلي للخطاب عن طريق الحفر في السياق الاجتماعي الذي أنتج فيه الكلام. فتعتني التداولية بدراسة العلاقات التي تصل اللغة بمستعمليها،  وعليه تنطلق بـحثا في الاستعمال اللغوي؛ أي في الأقوال أو الإنجاز لتحديد معنى القول وأسبابه وقصديته وتقدم تقنيات لفهمه وتأويله[6].



بمعنى آخر، لقد ركّز هابرماس في  مشروعه الفلسفي على المحور اللساني للتأسيس لإتيقا المناقشة والمناظرة وشتى أصناف الحوار. ونظر للغة في العقلانية التواصلية "لا باعتبارها وسيلة للبيان أو التصوير، إنما يجب النظر إليها من جهة وظيفتها التداولية وعمقها التواصلي، ودورها في معالجة الفرد والمجتمع من الأمراض الاجتماعية التي تمّ كبتها في دائرة اللاشعور بشكليه الفردي والاجتماعي والتخفيف من وسائل الضغط والإكراه"[7].



يورغن هابرماس وتداولية الخطاب:



التداولية الصُّورية (La pragmatique formelle) هي الـمُقاربة التي تبنَّاها يورغن هابرماس في تأسيسه للعقل التواصلي وتنظيم التَّخاطب بين الأفراد وسائر الـمؤسّسات. وتهتم التَّداوُليَّة التي وسـمت مشروع هابرماس الفلسفي - في عمومها - بجميع شروط الخطاب، معتمدة أسلوبًا ما في فهمه وإدراكه وتأويله بغية التماس الحقائق التي لا تتكشّف إلاّ بدراسة كيفية استخدام اللغة، وبيان الأشكال اللسانية التي لا يتحدَّد معناها إلاَّ بالإنجاز وفي الاستعمال[8]. هذا الـمعنى الشّاسع والواسع لدراسة اللغة من خلال بعدها التواصلي ووقْعِها التفاعلي -كما يذهب إلى ذلك اللساني الفرنسي دومينيك مانكونو (Dominique Maingueneau)- سينتج لنا أساليب متميزة فهم الخطاب، وسيُوسِّع أكثر عملية التواصل، على نـحوٍ يعارض طرائق البنيوية التي أبعدت الكلام والأداء [9].



ويذهب هابرماس إلى أنه لا يـمكن الحديث عن التواصل إلاَّ بافتراض وجود خطاب وحدث كلامي من جهة وعالم معيش وواقع هذا الكلام أو سياقه من جهة أخرى، فالتَّخاطب حدث تواصلي وتفاعلي من جهة واجتماعي ومقامي من جهة ثانية، وبالتالي لا يمكن حصره في الفلسفة أو الميتافيزيقا؛ وهابرماس يقول في هذا الشأن أنّ " ملفوظا ما لا يكون حقيقيا إلاّ إذا ترجَم حالة من الأشياء الواقعية، أو ترجم واقعا. صحيح أن الملفوظات الخاطئة لها هي أيضا، إذا صح القول، مضمون قضوي، غير أنه حين أتلفظ بملفوظ ما فإنني أثبت وجود حال  من الأشياء، أي أثبت وجود واقع ما"[10].



ويرجع اهتمام هابرماس بالتداوليات نظرًا للارتباط القوي الذي تمنحه هذه الأخيرة بين الكلام والفعل أو النظري والتطبيقي، بين اللغة والبراكسيس؛ حيث "يبدو مشروع هابرماس متعلقا بالجانب التطبيقي للغة (البراكسيس) وهو مـمارستها لا البناء التركيبي لها، وهو بهذا الشكل يتكلم عن الكلام أو الخطاب وليس عن اللغة بنفسها، فهنالك فرق بين اللغة الثابتة القواعد، والمعايير، والمجردة عن الفاعل اللغوي والكلام أو القول وهو ما يلازم الفاعل ويعتمد على طريقة إنجازه ومقصده وانعكاسه على الفاعل الآخر المستمع"[11]. وليس ذلك بغريب عنّا مادامت التداولية (باللغة الإغريقية Pragmaticus) مشتقة من الجذر (pragma) ومعناه الفعل (action)[12]، واستُعمِلت هذه الكلمة في اللغة الفرنسية للدلالة على المرسوم أو المنشور (pragmatique sanction أو pragmatica sanctio باللغة اللاتينية القروسطية) وذلك في مجال العلوم القانونية للوصول عن طريق هذا المنهاج التداولي إلى حلول عملية أو نـهائية[13].



وقد اهتمَّ هابرماس من خلال التداولية الصورية اهتماما واسعا بـمعاني الأقوال ودلالاتها بعيدا عن كون الخطاب متأصلاً في الكلمات وحدها، ولا يرتبط بالمتكلم وحده، ولا السامع وحده، وإنما يتمثل في تداول اللغة بين المتكلم والسامع في سياق محدد (مادي، واجتماعي، ولغوي) وصولاً إلى المعنى الكامن في كلام ما[14].




وبالتالي تتجاوز التَّداوُليَّة الوصف التركيبي للجملة ودرجة نحويتها، أو علاقة المعجم المكوّن للقضية بالخارج، وتتخذ موضوعا للبحث القول منزّلا في المقام المعين[15]، فانطلق المهتمون بالتداولية من الاختلاف القائم بين علم التركيب (La syntaxe) وعلم الدلالة (La sémantique) من جهة، والتَّداوُليَّة من جهة أخرى، ليفصلوا بين النظام (اللغة Langue) واستعمال ذلك النظام، وقد مثّل كلاّ من آن روبول (Anne Reboul) وجاك موشلار (Jaques MOESCHLER) ذلك في المخطط التالي[16]:








أضحت التداولية الصورية - إذن- ملاذًا للمشروع التواصلي عند هابرماس، فقد عدَّها منطقا جديدا للعلوم الاجتماعية مستندا فيها إلى منجزات اللسانيات التداولية وأعمال فلسفة اللغة. بعبارة أخرى، يجتاز هابرماس النظريات التقليدية والطروحات المتشبِّثة بفلسفة الوعي والذات وأشباهها من النظريات التجريبية التي وصلت إلى منافذ مغلقة، فهي نظريات تشكو من نقائص وهنات. يقول هابرماس: "ما أنهك هو نموذج فلسفة الوعي، ولئن كان الأمر كذلك، فإنه لا بدّ من أن تختفي أعراض الإنهاك فعلا بالانتقال إلى نموذج التفاهم"[17].



وفي تداولية هابرماس ترتبط حقيقة ملفوظ ما بواقعه الذي قيل فيه، أي سياقه ومحيطه التداولي. يقول هابرماس: "إن ما يحق لنا إثباته، نسميه واقعا. والواقع هو ما يشكل حقيقة ملفوظ ما، لذلك نقول بأن الملفوظات تترجم، وتصف وتعبر عن وقائع"[18]. ويرى هابرماس أنّ الحقيقة مجالها عالم الأفكار والعقل والاستدلال لا على أساس أنها إدراكات حسية؛ فالحقائق: "هي ادعاءاتنا التي نزعم أنها صحيحة، أما المواضيع فهي تنتمي إلى العالم. وقد خلطت نظرية التوافق، أو التطابق، بين الحقائق والمواضيع. إنها تقول إن ادعاءات الصحة يجب أن تتوافق مع الحقائق. وتبدو الحقائق في مثل هذه النظرة شيئا واقعيا، جزءا من العالم، مواضيع!..إن هابرماس ينتقد هذه النظرة قائلا: "إن نظرية التوافق تحاول بلا جدوى الخروج من المجال المنطقي/ اللغوي الذي بداخله فقط يمكن أن نوضح حقيقة فعل لغوي". إن الحقيقة كما يفهمها هابرماس قولٌ لا واقع، استدلال وليست تجربة"[19].


والحال أنه إذا كانت موضوعات تجربتنا هي عبارة عن شيء ما يوجد في العالم (أي مطابقة للتجربة المعاشة ومماثلة للواقع)، فإنه لا يمكننا أن نقول بطريقة مماثلة، فيما يخص الوقائع، بأنها "شيء ما يوجد في العالم" في حين أن هذا الإثبات أو أي إثبات معادل هو ما يجب أن تقوم به نظرية الحقيقة التطابق: فهي تؤكد أن الملفوظات الحقة تطابق الوقائع[20]. فحياة اللغة بحكم وظيفتها التواصلية لا تخرج عن دائرة مستعمليها، وهو ما انتصرت إليه اللسانيات التَّداوُليَّة[21]؛ فالخِطاب (Discours) الذي قد يكون رصفًا للتركيب فيندرج في نظام اللغة في ثباتها، والذي قد يكون صياغة للتعبير، فيخرج من اللغة ليندرج في سياق العلاقات الاجتماعية، أي ليقوم بمحاولة إيصال الرسالة المولودة في سياق هذه العلاقات[22].


تداولية الخطاب: بين التذاوت والتفاهم:



يهتمّ هابرماس بالإنجاز اللساني والأداء الكلامي أو الفعل الخطابي بغية الفهم والتبليغ، ففي الاستعمال اللساني ينسّق المتداولون "مشاريعهم بالاتفاق فيما بينهم على أمر موجود في العالم؛ أنا المتكلم والآخر الذي يتخذ موقفا إزاء هذا العمل الكلامي، يعقدان الواحد مع الآخر علاقة بينشخصية تستجيب هذه العلاقة لبنية تتعرّف من خلال النظام الذي تُشكِّلُه في تلاقيهما المتبادل منظورات المتحدثين والمستمعين والأشخاص الحاضرين الذي لم يشتركوا بعد في عملية التبادل، يقابل هذا النظام، إن أي شخص يستعمل هذا النظام يعرف كيف يتبنى منظورات ضمير المتكلم وضمير المخاطب وضمير الغائب، وكيف يحلها الواحدة ضمن الأخرى، في اتجاه أدائي، هذا الاتجاه للمشاركين في تبادل يتوسَّطه اللسان يتيح للذات أن يكون لها مقابل ذاتها علاقة أخرى...وهي خيار يسقط في اللحظة لما بين الذاتية التي ينتمي لها اللسان"[23].
فالجهود الذاتية والجماعية تتظافر في تحصيل الحقائق. وهذا طرح إشكالي، فنشدان الوصول إلى الحقيقة طرح استشكل على المعرفة الإنسانية منذ القدم، والطريق الصحيح إليها لا بُدَّ أن يتوقّف على المحاورة والمناظرة والنقاش بالتعرف على الرأي والرأي المخالف[24]، ولا يكون أبدا بطمس آراء الآخرين ونبذها أو تحقيرها أو الهروب من مواجهتها، فلا سبيل للحقيقة إلاَّ عبر الحقائق المتفاهم بشأنها. إنّ الأهم ليس ما أدعيه أنا وأنت من حقائق، بل ما نستطيع الوصول إليه معا ونتفق عليه بشأنها[25]. إذن الحوار والنقاش هما من شروط الوصول إلى الحقيقة؛ حقيقة مكلّلة بقبول واعتراف جـماعي.


وتُراهن تداولية هابرماس على التبادل بين المتناظرين والتداول بين المتخاطبين؛ وبذلك استُبدِلت آراء هيدجر عن اللغة كمأوى للوجود أو خزّان التجارب الإنسانية بمباحث تداولية متّخذة من الحوار مبحثا أساسا من مباحثها؛ أي اتخذ هابرماس وأشياعه من ممثلي فلسفة التواصل في فرانكفورت اللغة كوسيط حواري يمدّ جسور التفاهم والوفاق بين الشركاء. وبالتالي وعن طريق هذا الفتح التداولي سيُستبعد الفهم الكلاسيكي للخطاب كوعي جـمعوي مشترك أو كإيديولوجيا واضحة المعالم[26]، وفي هذه الفلسفة النقدية التواصلية سيتمّ السَّهر على الخطاب كوسيلة فاعلة في صهر الأفعال والممارسات الاجتماعية وسلوكات المتواصلين وطرق الـتّأثير لبلوغ الحقائق.
وتتأسّس العقلانية التواصلية على التذوات (intersubjectivité) مركزة على أن معنى الخطاب لا تحتكره ذات واحدة بل هو اشتراك وتعاون تصوغه الذوات. وبهذا تعوّض البينذاتية النموذج الابستمولوجي الذاتي أو فلسفة الوعي؛ حيث لا يجد الوعي فهما سليما له إلاَّ من خلال قياسه وامتحانه بالشكل الذي يقابله من علاقة "أنا-أنت"[27]. وبهذا فإن الخطاب والفعل التواصلي "يتوجّه حسب المعايير النابعة من التذاوت، والجاري العمل بها نحو تكاملية في السلوك (التفاهم)، ويفترض الفعل التواصلي، والكلام، كقاعدة للصلاحية والمشروعية، وأن مقتضيات أو ادعاءات الصلاحية الشاملة (الحقيقة والصحة والصدق والمعقولية) التي يطالب بها المشاركون في الفعل التواصلي عبر التداول اللّغوي، تجعل التوافق الجماعي أو الاتفاق الإجماعي ممكنا"[28].
معنى هذا أنّ التجربة التواصلية تنهض وتتأسس دعائمها على العلاقة التفاعلية التي تربط الأفراد وتحقق نوعا من التشارك والتعاون (coopération) الاجتماعي وذلك عبر وسيط اللغة في السجالات والنقاشات.  ويُلحّ  هابرماس على صلة الفرد بالآخر/الشريك[29] دون ضغط أو إرغام أو قسر "بغية تشكيل لحمة  النسيج الاجتماعي وفق أنـموذج إتيقا المناقشة وباستلهام من المنابع الأولى للعقلانية التنويرية الأصيلة كما تصوَّرها المشروع الحداثوي في الغرب، وإذ ذاك سيتم الانتقال من مرتبة العقلنة إلى العقلانية وهذا في حد ذاته أمر بالغ الدلالة"[30].
 الهدف من التفاهم بين أطراف الخطاب الاتفاق المشترك بين الذوات أي التذاوت المشترك والتفاهم المتبادل والاقتراب في الآراء عن طريق المناقشة والبرهنة، وهو ما يؤدي في الأخير إلى تقارب وجهات النظر وإلى تفاعل إيجابي بين المتحاورين، إنّ "التفاهم هو عملية إقناع متبادل تنسيق أفعال أطراف متعددة تشارك في أساس التبرير بواسطة الحجج المقدمة، فالتفاهم يعني التواصل من أجل اتفاق حاصل مقبول"[31].
إنّ كل فاعل اجتماعي يتمتع بكفاءة تواصلية وتداولية بمقدوره المساهمة في التواصل والبرهنة والحوار، شريطة أن تراعي ملفوظاته  مقاييس المعقولية، وقد ألحّ هابرماس على هذه الشروط لتشكيل نظرية شاملة وإجمالية للحقيقة. وإذا حدث تفاهم بين المتخاطبين، وجب عليهم في تلفظهم مراعاة ادعاءات الصلاحية التي يقر بها الفاعلون الحقيقة والدقة والصدق...حيث يُصرّ هابرماس على احترام المتلفظين لـمبادئ يسميها مسلمات في كل علاقة تواصلية، وهي أربعة :
المعقولية (intelligibilité/ verständlichkeit) إنتاج خطاب تتوافر فيه الصحة التركيبية وتحترم فيه المعايير اللسانية.
الحقيقة (vérité/ wahrheit):  أي في المقال سيكون القول عن وقائع حقيقية غير مستوحاة من الخيال.
المصداقية (justesse/ richtigkeit): التلفظ باعتبارها وظيفة لإقامة علاقة مستقيمة ما بين الأشخاص، ويتكفل هذا الادعاء بموضع تطابق الفعل اللغوي مع مقتضيات مخطط معياري سابق معترف به من طرف المجتمع[32].
الصدقية (sincérité/ warhaftigkeit): التعبير عن مكنون الصدور والمقاصد والنوايا بأسلوب صادق وواضح غير ممزوج بالمداهنة والتلاعب والرغبة في التضليل.
هذا الطَّرح التواصلي للتفاعل بين الناس يمثل قيمة تأسيسية عند هابرماس وحتّى كارل أتو آبل على المستويين النظري والفعلي؛ ففي هذا المعنى يحتاج العقل النظري والعقل العملي في ما بعد الحداثة إلى تبادل وجهات النظر بين الذات والآخر وإلى إرساء قواعد التبادل المُجدي والحوار البنَّاء الهادف إلى تأسيس معقولية عملية مشتركة[33].
ومعلوم أن المناقشة أو المناظرة تُبنى على أرضية توافق معايير وأخلاقيات الحوار وقواعد البرهان المستندة إلى الـمنطق اللغوي. والتداولية كفيلة بمعالجة الحقيقة بين الأفراد كسيرورة للبرهان والمحاججة من منطلق القضايا اللغوية المتبادلة بينهم. وبالتالي لا تستقيم الحقيقة "بدون تقديم البرهان عليها، فهي تتم إذا توصل الفرقاء إلى اتفاق قائم على شروط اللغة المعيارية (فالتوافق مفترض في اللغة ذاتها). أي لا يستقيم لها اعتراف إلا باحترام شروط الصدق والمصداقية والصلاحية والمعقولية"[34].



خاتـمة:



نستشفّ مـمَّا ذكرناه سالفا من تحديدٍ مفاهيمي للتداولية الصورية عند يورغن هابرماس أن هذه المقاربة تفلح إلى أبعد الحدود في معالجة الإشكالات النظرية في العلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد استلهمها هابرماس لتوسيع دائرة النظرية النقدية عن طريق نظرية تداولية اجتماعية أكثر تنظيما واتساقا، باستناده إلى اللغة وبلورته لنظرية الفعل التواصلي، وبذلك مكنته اللغة من إحداث قطيعة مع الطروحات التقليدية في العلوم الاجتماعية المتعلقة بالوعي والفعل والممارسة[35].
كما يمنح هابرماس منطق الخطاب بين المتواصلين بُعدًا أخلاقيًا ويقيم عبر العقلانية التواصلية جسورا للتفاهم والتحاور ويخلق أرضية للاختلاف لا الخلاف في الآراء وتداول الحقائق، مُقصيا أي تصور أحادي أو رؤية متغطرسة للحقيقة. وبهذا ، فعندما تكون الحقيقة ثمرة حوار بين المعقولية والعقلانية، بين العالَم والإنسان، وبين الإنسان والإنسان، فإنها تكون متسامحة في غالب الأحيان. هذا لا يعني أن الحقيقة عندما تتصف بالتسامح تتخلى عن صرامتها في مراعاة الشروط المنهجية والمعرفية للوصول إليها[36]، وإنما يعني فسح المجال لأن تكون للحقيقة عدة أصوات، وتسهيل الفرص للإنصات إليها والحوار معها.
1- حسن مصدق، يورغان هابرماس ومدرسة فرانكفورت: النظرية النقدية التواصلية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، وبيروت، لبنان، ط1، 2005، ص: 124.
2 - جاك مارك فيري، فلسفة التواصل، ترجمة وتقديم: عمر مهــيـبل، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، ومنشورات الاختلاف، الجزائر، والمركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، وبيروت، لبنان، ط1، 2006 ص: 17.
3 - هابرماس، العلم والتقنية كإيديولوجيا، تر: حسن صقر، منشورات الجمل، ألمانيا، ط1، 2003، ص: 14.
4- حسن مصدق، النظرية النقدية التواصلية، مرجع سابق ص: 103.
5 - علي عبود المحمداوي، الإشكالية السياسية للحداثة: من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل هابرماس أنموذجا، منشورات الاختلاف، الجزائر، ودار الأمان، الرباط، ط1، 2011،  ص: 209.
6 - يُنظر: ألفة يوسف، "تعدد المعنى في القرآن: بحث في أسس تعدد المعنى في اللغة من خلال تفاسير القرآن"، دار سحر للنشر،كلية الآداب، منوبة، تونس، ط2، د.ت، ص: 12.
7 - عبد الرزاق بلعقروز، تحولات الفكر الفلسفي المعاصر: أسئلة المفهوم والمعنى والتواصل، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، ومنشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2009، ص: 252.
8 - يُنظر: فرانسواز أرمينكو، "المقاربة التداولية"، ترجمة: سعيد علوش، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان، 1986، ص: 08.
9 - Voir: Dominique Maingeneau, "Les termes clé de l'analyse du discours", seuil, collection mémo, février, paris, 1996, p: 65.
10 - Jürgen Habermas, Logique des sciences sociales, Paris, ed PUF, 1978. p : 277.
11- علي عبود المحمداوي، الإشكالية السياسية للحداثة: من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل هابرماس أنموذجا، مرجع سابق، ص: 210.
12 - تنسب الموسوعة البريطانية أول استعمال للكمة "Pragma" إلى المؤرخ الإغريقي بوليبوس (المتوفى سنة 118 ق.م.). أطلق هذه التسمية على كتاباته لتعني آنذاك تعميم "الفائدة" العملية، ولتكون منبرا تعليميا. ومنها اشتقت اللغة الإنجليزية جميع المفردات التي ترتبط بكلمة practice ، وأهمها practical التي من رحمها ولدت ما يسمى بالفلسفة الذرائعية أو البرغماتية pragmatism.
13 - Voir: Jean-Michel GOUVARD, "La pragmatique: outils pour l'analyse littéraire", Armand colin, paris, France, 1998, p: 04.
14 - يُنظر: فرانسواز أرمينكو، "المقاربة التداولية"، ترجمة: سعيد علوش، مرجع سابق، ص: 14. 
15- Voir: Anne REBOUL et Jaques MOESCHLER, "Pragmatique du discours: de l'interprétation de l'énoncé à l'interprétation du discours",  Armand Colin, Paris, France, 1998, p: 32
16  - Voir: Anne REBOUL et  Jacques MOESCHLER, "Dictionnaire encyclopédique de pragmatique", Editions du Seuil, Paris, France, 1994, p: 09 et 10.
17- يورغن هابرماس، القول الفسلفي للحداثة، ترجمة: فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1995، ص: 454.
18 - Habermas, logique des sciences sociales, p : 280.
19 - رشيد بوطيب، مفهوم التواصل في الفلسفة: من الحقيقة إلى الاختلاف (هابرماس ولوهمان). في كتاب "التواصل...نظريات وتطبيقات"، تحت إشراف محمد عابد الجابري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2010، ص: 37.
20 - Habermas, logique des sciences sociales, p : 281
21- يُنظر: أحمد يوسف، "الدلالات المفتوحة: مقاربة سيميائية في فلسفة العلامة"، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان، ومنشورات الاختلاف، الجزائر، والمركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، وبيروت، لبنان، ط1، 2005، ص: 29.
22- يُنظر: يـُمنى العيد، "في معرفة النص: دراسات في النقد الأدبي"، دار الآداب، بيروت، لبنان، ط4، 1999، ص: 80.
- هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ص ص: 455 و456.23
-24
25 - حسن مصدق، النظرية النقدية التواصلية، ص ص: 13 و14.
26 - المرجع نفسه، ص: 79
27 - المرجع نفسه، ص: 121.
28 - هابرماس، بعد ماركس، ترجمة: محمد ميلاد، دار الحوار، دمشق، ط1، 2002، ص: 46.
29 - إن الذات تشبه الآخر من حيث هو ذات كذلك، والذات الواحدة يمكنها أن تصبح آخرًا ، وهو مما صار يعرف تحديدا بمبحث الغيرية (altérité).
30- ج. م فيري، فلسفة التواصل، ص: 17.
31-  محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة: نموذج هابرماس، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، وبيروت، لبنان، ط1، 1991، ص: 212.
32 حسن مصدق، النظرية النقدية التواصلية ، ص: 146.
33- Voir : K.-O. Apel, “Wahrheit als regulative Idee”, in D. Böhler, M. Kettner, G. Skirbekk (sous la direction de), Reflexion und Verantwortung – Anseinandersetzungen mit Karl-Otto Apel, suhrkamp taschenbuch wissenschaft, Frankfurt a. M. 2003, p p: 171-172.
34 - حسن مصدق، النظرية النقدية التواصلية،  ص: 143.
35 - الزواوي بغوره، الفلسفة واللغة: نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2005، ص: 209.
36 - Habermas, L’éthique de la discussion et la question de la vérité, Paris, 2003, p.130







































**جامعة تلمسان - الجزائر