تكست: السنة الثانية - العدد العشرون - تشرين الثاني 2013






السنة الثانية - العدد العشرون


الجمعة، 6 ديسمبر 2013

تكست - العدد العشرون - العبـــــــــور من بســــاتين (سركون بولص) الكركوكية .... من ذاكرة فاروق مصطفى



في الذاكــــــــــرة




العبـــــــــور من بســــاتين (سركون بولص) الكركوكية .............فاروق مصطفى





          فكرت في هذا الصباح ان اقتفي خطى ( سركون بولص ) الصاعدة الى سلسلة التلول الحزينة الجرداء التي تحيط بكركوك من جهتها الشمالية , هذه التلول التي يرين عليها حزنً سرمدي مستعصٍ على الفهم , ولكنه حزن شفيفً يستدرجك الى وكناته والاغتسال بأظلاله العاتمة , احب سركون تلك التلول وكثيراً ما قاد دراجته اليها وحتى انه في الطريق كان يبتني له سقائف من اغصان الاشجار المتيبسة تقيه من الامطار اذا كان الفصل شتاءً او تحميه من حماوة القيظ اذا كان الفصل صيفاً . تعود سركون ان يتردد على هذه الاماكن التي تقوده الى تلال المدينة وفي الطريق اليها كانت الطواحين الحجرية القديمة تستوقفه والتي اصبحت مهجورة بتقادم الايام وظهور الطواحين المكننة , يقف عندها وربما وصلته جلبة هاتيك الايام واصوات الطحانين وحمحمات البغال التي تنقل اجولة الدقيق واكياس الطحين , المكان الكركوكي ساحر بتضاريسه التي تتدفق فوقها السواقي المائية التي اعتمدت الطواحين عليها في دوران مرافقها .
          وصل سركون بولص كركوك عام 1956 برفقة اسرته قادمين اليها من منطقة الحبانية وسكنت العائلة محلة ( تبة ) المواجهة للتلول الشمالية ومن سطح داره حيث كان يرتقيه من اجل رسم لوحاته وانعكاس ضوء النهار القوي على اوراقه وقماشاته كان يطل على ذلك المنظر البانورامي وفي عين الوقت نيران النفط المتأججة في الناحية الغربية المحيطة لمنزله ومن هنا جاء هواه الشغوف لهذه المساحات الممتدة امام ناظريه وعشقه الجواني لجماليات كل هذه الاماكن التي خصها باهتمامه في العديد من نصوصه السردية والشعرية .
          تتلمذ سركون بولص في مدارس كركوك وكان اخر مطافه التعليمي في اعدادية كركوك فقد امضى عام 1962 وهو في الصف الخامس الادبي وكان من بين زملائه في نفس الصف الاعلامي المعروف نهاد نجيب والقاص وفيق رؤوف اما انا فقد كنت اتتلمذ في الصف الرابع الادبي واذكر جيداً ان مدرسنا  في اللغة العربية الاستاذ محسن عبد الحميد وفيما بعد المفكر الدكتور، ساق المديح لسركون وهو بصدد حديثه عن الطلاب المتفوقين في دروس الادب والانشاء في الصف الخامس فكان سركون من بين اولئك الطلاب الذين اثنى عليهم استاذنا , وذكر لنا تفوقه في دروس الانشاء وكذلك مهارته وبراعته في كتابة القصص واخبرنا ايضا بأنه يتوقع له مستقبلاً لامعاً في العربية .
          يخبرنا سركون في محاورة طويلة اجراها معه ( خالد المعالي ) ونشرت على صفحات مجلة ( عيون ) العدد 12 عام 2001 بأنه عندما اريد الانضمام منه الى صفوف الحزب الشيوعي كان يؤخذ به الى طريق كركوك – اربيل قريبا من هذه التلول لعقد اجتماعاتهم الحزبية ((  لكي نعقد اجتماعات مع خمسة او ستة اشخاص في خلية كنا في طريق كركوك – اربيل نختلي في نوع من الخندق او الحفرة لعقد الاجتماعات نحكي عن اخبار واحداث وقعت في منطقة فلانية ))  ولكن سركون بعد مدة توقف عن الذهاب الى تلك الاجتماعات لانهم اكتشفوا فيه ميله الشديد الى عوالمه الشعرية واستقلاله الذاتي و تفكيره السائح الكوني .
          اضع الان في حقيبة زاداً قليلاً ودواوين سركون الستة , اريد اقتفاء اثاره في نفس تلك الاماكن التي مر منها واحبها بحميمية وشم ضوعاتها وفهرس خرائطها في ذاكرته بحيث عندما غادر العراق عام 1967 ظلت تلك المعالم الكركوكية متدلية من سقوف ذاكرته وكان يضخها بين فترة واخرى في نص من نصوصه الشعرية . امضي وفي داخلي طوقاً الى قراءة قصائده عبر هذه الاماكن حيث ترك فيها دبيب خطواته اثارها المعلمة , واقرأ تلك القصائد المستسقاة من نسغ ذاكرته الكركوكية من منطقة ( تبة ) والطواحين الحجرية والتلول الجرداء المتحجرة من احزانها السرمدية , امشي الا انني لا اقع على تلك المعالم التي هيمته لان معالم العمران المديني زحفت الى مسافات اطول وابتلعت تلك الاماكن التي شغفت الشاعر في صباه وشبابه المبكر وبالرغم من انمحاء هذه الملامح ولكن ظلت علاماتها واشاراتها واسماؤها في نصوص الشاعر , ففي نصه ( زفاف في تبة كركوك ) وهو يدخل اجواء هذا العرس الذي شاهده وهو في طريق اوبته من المكتبة العامة قاصداً بيته في ضواحي المدينة الشمالية يقول ((  في الطريق الى البيت , فردوس الفقراء الصاخب , فجأة في اعالي ( التبة ) اهناك قمراً ونجوم كبيرة تخفق كأجفان كائنات من الثلج ترن تحتها اصوات الملاعق على الصحون وطرق الكؤوس في سلسلة لاتنتهي من الانخاب ))  انه عرسٌ كركوكي بأمتياز تصاحبه انغام المزمار ودقات الطبل ودوران الاطفال في حلقة الرقص , ويشبه الشاعر حركاتهم الدائرية بالخذاريف البشرية وهو يجمع هنا في صوره بأتقان بارع ادواته الشعرية الى باصرته التشكيلية وانا احس وكأنني اتخضب بكل هذا الصخب واتغبر من الغبار الهائج من اقدام الراقصين والمحتفلين .
          وعندما احاذي بستان صديقي الاشوري المتقاعد ينفتح افق اخر في براري كركوك الفساح يقول سركون في هذا النص الموسوم بـ ( بستان الاشوري المتقاعد )
((  النجوم تنطفئ فوق سقوف كركوك
    وتلقي الافلاك برماحها العمياء الى ابار النفط المشتعلة ))
اسمع أنات صديقي الاشوري وهو ينزع ضرسه بنفسه يئن من الامه وتصعد هذه الانات لتصبغ ليل كركوك بالوجع الاسيان والصراخ الذي ينداح الى مسافات طويلة , انه الذكرة السركونية التي تمتح من كهاريز المدينة من براريها من نيرانها المشتعلة . ويبزغ ( نهار في كركوك ) وهو نص احتواه ديوانه الموسوم بـ ( الاول والتالي ) استوحى الشاعر اجواءه من اطلالته من سطح داره المتعرشة منطقة ( تبة ) تلك الاطلالة المستشرفة على فسح من الارض قامت فوقها مصافي النفط والابقار التي ترعى في ظلال الصهاريج البيضاء ومتاهات من الانابيب الممتدة والغارقة بالوانها الفضية ونيران الحقول النفطية مستمرة في استعارها وشبوبها يقول الشاعر :
(( هناك تتمرغ الشمس على ظهرها
   في زجاج نافذة غبراء
    سمكة تلفظ انفاسها الاخيرة
    هناك يبدو العالم كمركب نوح القديم اذ يودع اخر الضفاف ))
          اصل التلول وانا اتصبب عرق الساعات التي امضيتها في التسيار , اقتعد صخرة مستمرئاً رغفان ذاكرتي التعبة علي اعثر فوق رفوفها عن لقى انا في حاجة الى بريقها ومن هناك اطل على كركوك واصرخ مع سركون الذي تأبط الام بودلير عندما وصلت الى بيروت .
(( ايها الماضي , ايها الماضي : ماذا فعلتَ بحياتي ؟ ))






















العــــــودة للصفحـــة الام - تكست مجلة فصلية ثقافية مستقلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق